سبع خواجات: سير رواد الصناعة الأجانب فى مصر
ليس أصعب من النسيان،طمسُ المعالم و محو الخطوات وتغييم الأحداث سمةٌ لصيقةٌ بتاريخنا الحديث.كُلَّما حلَّ عهدٌ ازدرى سابقه،وإذا تغيَّرَت سُلطةٌ لَعَنَتْ ما قبلها،حتى تناسى الناس هِمَمًا عظيمة،وتجاهَلَ المُجتمعُ أفذاذًا بارزين صنعوا أمجادًا وعظائم،وكانوا سلالم أولية لمصر الحديثة في الصعود إلى المدنية والحداثة والتقدُّم.
إن كثيرًا من الإنجازات الحضارية تحوَّلت إلى إخفاقاتٍ على أيدي مُزوِّري التاريخ،والراصدين بغِلٍّ،والمُتابعين بتحيُّز،والباحثين بتصيُّد،ومع تغيُّر الأنظمة وتعاقُب رجال السُلطة،صارت كثيرٌ من الحقائق مُشوهةً،وصار التنقيبُ والبحثُ، وإعادةُ القراءة فريضةً واجبةً على كُلِّ باحثٍ لديه ضميرٌ حي.
من هذا المُنطلق كان لكاتب السطور جُهد وسعى لإعادة قراءة تاريخ الرأسمالية الأجنبية في مصر قبل ثورة 23 يوليو سنة 1952م،وهالَه أن يكتشفَ حسناتٍ وإنجازاتٍ لتلك الرأسمالية،خاصَّةً في قطاع الصناعة،أحد أهم قطاعات التنمية الاقتصادية.
استغرب الكاتب أن تكونَ للأجانبِ أيادٍ بيضاء على كثيرٍ من نواحي العُمران والمدنية في مصر خلال النصفين:الثاني من القرن التاسع عشر والأول من القرن العشرين،واستفادت الصناعة المصرية في هذا الشأن من الأجانب بصورةٍ غيرِ مسبوقة،حيث زَحَفَت الآلاتُ الحديثةُ تدريجيًّا،ووُلِدَت الحركاتُ العمالية،ووُضِعَت أنظمةُ العمل،واستُحدِثَت برامجُ التدريب والتطوير،وعَرَفَ الناس النُظُم الحاكمة للعمل الجماعي.
كان مبعث الدهشة أنَّ مُعظم الكتابات التي تناولت الرأسمالية الأجنبية في مصر استقبَحَتها،ولم تعترف لها بحسنات،ولم تلتفت فيها لمزايا،وإنَّمَا رأت عيوبًا ومساوئ لا حدودَ لها.
لقد شهدت مصرُ بعد ثورة 23 يوليو موجات رُهاب الأجانب (xenophobia) بصورةٍ حادَّة،وتحوَّل كُلُّ رأسمالي أجنبي إلى شيطانٍ مُستغل،وتَبَدَّلَت صورة مشروعات الأجانب من مشروعاتٍ استثماريةٍ تستهدفُ الربح وتساهم في التنمية، إلى مشروعاتِ استغلالٍ ونهبٍ وسرقة.
كُتِبَت المقالات،ونُشِرَت الدراسات غير الموضوعية،والكُتُب اللاعِلمية التي برَّرَت إجراءات تأميم الشركات الأجنبية بعد ثورة يوليو،وأخفَت معالمَ، وأهملت مكاسب، وزوَّرَت أعمالًا عظيمة،ليقترنَ مُصطلح الاستثمار الأجنبي في مصر باللصوصية و النهب، وهيمنة الاستعمار.
في أعقاب الثورات،ومع كُلِّ تغيُّرٍ سياسيّ،تتسيَّد نظرية المؤامرة،يُصبح الإخفاق والضعف والفشل نتيجةً طبيعيةً لتآمُر الأعداء وتربُّصِ الكارهين،ويُصبح الآخر أو الغريب،أو الأجنبي عدوًّا مهما كانت جنسيته، ذلك ما جرى للاقتصاد المصري عقب ثورة يوليو، وهو ما استمرَّ و رَسَخَ في ذهنية العقل المصري على مدى عقودٍ تالية.
وهذا الكتاب محاولة جادَّة لإعادة بعث شخصياتٍ أجنبية عظيمة،أثَّرَت إيجابيًّا في الصناعة المصرية،ورَسَمَت البدايات الحقيقية لها،هي محاولة التجديف بمركب البحث ضد التيار،والخوض في مُستنقع التشويه والبُهتان لاستخلاص لآلئ المعرفة،واستجلاء الحقيقة،رغبةً في إنصاف بشر ودحضِ نُكران أصحاب نظرية المؤامرة والمُتعصِّبين ضد الأجانب.
هي محاولة،رُبما هي الأولى لرد الاعتبار للرأسمالية الأجنبية،من خلال سرد سير سبعة رجالٍ أجانب،كانت لهم الريادة والسبق في بناء وتطوير وتنظيم الصناعة المصرية، ووضعها على طريق المدنية والتقدُّم.
ومما يؤسَفُ له أنَّ رحلة البحث تعرَّضَت لمصاعب شتى ومعوقات عديدة، كانت من بينها اللاموضوعية التي اتَّصَفت بها مُعظمُ الكتابات المُتابعة لبدايات الصناعة المصرية،خاصةً لدى الأجانب،فضلًا عن شُحِّ المعلومات المُتاحة، وضياع كثيرٍ من الوثائق الهامة التي تؤرِّخ للصناعة في القرن التاسع عشر الميلادي.
ورغم ذلك،واصل المؤلف عمله وبحثه واصطدم بجهلٍ مُخيفٍ لدى كثيرين حول أسماء لامعة كانت في زمانها ملء السمع والبصر،واستعان بعشرات المراجع الأجنبية وأعاد قراءة كثيرٍ من المراجع العربية محاولًا إعادة قياس الأمور،بعيدًا عن التعصُّب الوطني أو الرؤية التآمرية،كما عاد إلى كثيرٍ من الصُحُفِ والمجلات القديمة بحثًا عن إشارةٍ أو لمحةٍ أو صورة،
وهكذا تمَكَّنَ من الوصول إلى حكاياتٍ تُشبِهُ السيرَ الشخصية عن هؤلاء الأجانب،الذين تركوا بلادهم وجاءوا إلى مصر بحثًا عن فُرَصِ نجاح و رغبةً في تحقيق ذواتهم، فربِحوا وأربَحوا.
ولا شَكَّ أنَّ ما يعرضه الكاتب هو مُجرَّد بداية لفتح الباب لإعادة قراءة سير كثير من الأجانب الذين لعبوا دورا هامًّا وخطيرًا في تحديث مصر لكنَّهم صُبِغوا بصبغة العداء لانتمائهم لبُلدان الاستعمار بدءًا من فرديناند ديليسبس،وحتى نوبار باشا.
إنَّ أبطال هذا الكتاب هم خواجات قدموا من بُلدان مُختلفة واستقرُّوا في مصر،وتركوا بصماتهم على إحدى جُدران مصر الحديثة،هي الصناعة،لذا كان هذا الكتاب.