تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري
تشدك إلى هذه الكتاب -وأنت تقرؤه- جملة من القيم الكريمة السامية، تستبد بك فلا تفلت منها أو لا تكاد، وتنزلق بك في مسارب هينة موفقة من الكلام، وفي معارج رفيعة من العمل، فإذا أنت متشبث بكل ما في الكتاب، متصل به، ماض في قراءته، لا تكاد ترفع عينيك عن الصفحة التي تقرؤها إلا لتستقبل الصفحة التي وراءها، وإذا أمن واجد نفسك وقومك ووطنك في صور أخرى هي من صميم بلدك، ولكنها ليست الصور التي تعود الكاتبون أن يطلعوك عليها، وتعوّد الباحثون أن ينظروا غليها وأن يتوقفوا عندها.
وقد تعجب أن يكون هذا شأن كتاب في التراجم، والتراجم فن من فنون التأريخ عرفته ثقافتنا العربية والإسلامية منذ أخذ العرب والمسلمون يتناولون التاريخ بالتسجيل.. وجعلوا فيه مئات من الأسفار في سيرة أعلام من الرجال والنساء من العلماء والفقهاء والمؤرخون والقراء والمفسرين والنحويين والأخباريين وذوي السلطان والمتسلطنين.
ولكن عجبك هذا لا يلبث أن يضمحل حين تلاحظ أنه إذا كانت كتب التراجم جميعاً تشترك في ا،ها تكون صورة العصر للذين تترجم لهم، وأنها تستعيد ملامح طوائف العلماء الذين تتحدث عنهم. فإن هذا الكتاب لا يقنعه منك أن يرسم لك صورة العصر، وأن يخطط لك ملامحه، وإنما يتجاوز ذلك إلى أن يصحح هذه الصورة، وأن يعيد إليها ألوانها التي عمل التزييف على طمسها وامتصاص ألقها، وطمس روائها، وجهد بعض الباحثين في تلوينها باللون الذي يشاؤون. وهذه واحدة من أول القيم الرفيعة التي تكفل بها هذا الكتاب.
وهذا الكتاب حين يعرك إلى علماء القرن الرابع عشر الهجري في هذه الرقعة من الأرض العربية هو بحث عن هذه الجذور، ورؤية الثمار التي ننعم بها اليوم في صورتها الأولى. وتدركك هذه القناعة وأنت تقرأ هذا الكتاب أو تتوقف -لو استطعت التوقف-عند نماذج منه. ويستقر في نفسك أن الذي ننعم به في الجو الثقافي مدين في جوانب كثيرة منه إلى هذه النماذج من العلماء. وهي النماذج التي كان نشر المعرفة هدفها الأول، تنذر له ذاتها، وتقصر عليه جهدها.. تبدأ به وتنتهي إليه.
ويصاحبك وأنت تقرأ الكتاب صور من هذا الجهد الذي بذله المؤلفان في تجميع مادته من هنا وهناك، وقد اندثر منها ما اندثر، وبقيت أطلاله المتناثرة دليلاً عليه. ولم تقتصر المصادر التي استخدمها المؤلفان على ما هو مكتوب أو منشور، وإنما عمدا إلى إحياء المصدر الشفوي -على ما يداخله أحياناً من الحاجة إلى التثبيت- فكانت له هذه المصادر الحية يسألونها فتجيب، ويستنطقونها فتنطق..
أما منهجهما فسيتجلى للقارئ من خلال النقاط التالية: أولاً: أشترط لمن يوردا ترجمته في كتابهما أن يكون دمشقياً، بمعنى أن يولد في دمشق، وأن يتوخى فيها، أو يعيش حياته العملية فيها، أو يكون له تأثير على الحياة العلمية فيها، فمن توفر فيه شرط من هذه الشروط اعتبراه دمشقياً، وأوردا ترجمته.
ثانياً: اهتما بأن يذكر في كل ترجمة اسم العلم، ونسبه وسنة ولادته ووفاته، كانا حريصين على تاريخي الولادة والوفاة بدقة، إذا اهتما في حال وجدا اختلافاً في التواريخ ما كانا يريا أنه إلى الصواب أقرب، فيعتمدا على أقوال من هم ألصق بصاحب الترجمة. ثم يشيرا إلى نسبه، ونشأته الأولى، وشيوخه الذين قرأ عليهم وتخرج بهم والفنون التي أخذها، والعلوم التي قرأها. وبعدئذ يوردا ما اتصل بحياته العلمية من تدريس وتأليف منتهين بأخلاقه الشخصية وصفاته الخلقية والخلقية وما جرى معه من حوادث طريفة، أو مواقف هامة، ثم ما قيل فيه من أسفار مديح أو رثاء. وألحقوا بترجمته صوراً عما تلقى من أجازات من مشايخه أو بعض ما أصدر من فتاوى إن وجدت.