يقولون : إن القراءة هي الحياة.. وإنها الحياة الحقيقة، فهي ذلك السر الذي يهبك حياة سعيدة وافرة راقية، لما تجد فيها من ينابيع الحكمة، واتساع العقل، وتعاظم المعرفة، وذخر الثقافة، والخبرة في الحياة.
يقول سلمان عودة:
“الوقت الذي يتوقف فيه الإنسان عن القراءة، هو الوقت الذي يموت فيه”
ويقول غالب خلايلي:
“الحياة جافة ومريعة بلا قراءة، فالقراءة هي الخبز اليومي الذي لا يمكن أن تستمر الحياة من دونه”
هكذا تكون الحياة في نظر من يقدرونها ويعرفون قيمتها، لكنها في وجدان أمتنا وذاكرتها الماضية، لم تكن مجرد حياة تعيشها ويحقق أفرادها معنى الوجود فيها، بل كانت مجدًا وعزًا وسيادة وريادة وقوة أهلتها لقيادة العالم، وإنقاذ الشعوب، وإرساء منابت الحضارة والتقدم، وبسط معالم الحرية والعدالة والإنسانية.
هذا المجد الذي فرطنا فيه وأضعناه، يوم أن فرطنا في القراءة والاطلاع وغرام الكتب، وهو ذاته ذلك المجد الذي سُرق منا، أو قُلدنا فيه، فنالت أمم الغرب ما نلناه بالأمس، أو ما وهبتنا إياه القراءة في الزمن الماضي من تحضر وارتقاء، وصرنا اليوم نتباكى على عز تليد، وننبهر بأمم لم تفعل شيئًا إلا أنها عظمت أمر القراءة، بعدما كنا نحن سادتها وروادها، واستطاع رجالنا وعظماؤنا أن يضربوا في ميدانها أعظم المثل والشواهد في عشقها والهيام بها، وتحقيق أرقى الإنجازات العلمية والأدبية والثقافية، عبر ولوجها والعناية بدروبها.
وإننا اليوم لا نبكي على هذا المجد الضائع، ولا ننعيه بعد قرون مضت، وإنما ندرك ونوقن أن من سمة الحكماء العقلاء ذي الهمة والعزيمة، أن يعملوا على إعادة هذا المجد، ويقوموا بدورهم الإصلاحي في إحيائه مرة أخرى، لتعود لنا صبغتنا وأصالتنا، ونقبض بأيدينا على ما فقدناه من عز وسؤدد وشموخ.
لابد من إحياء مارد القراءة في ربوع أمتنا كما كنا قديمًا، لتكون منهجًا تشب عليه أجيالنا، ونطبع به عقولنا، ونغذي به هممنا وعزائمنا، حتى نفلت من إسار هذا الضياع والتأخر والتخلف والظلام، ونستفيق من غفلة طالت ودامت وخيمت بجهالتها في ديارنا وحياتنا.
تطوف بك هذه السطور في عالم القراءة، لتعرف أنها السبب في عِظم الإنسان، والطريق الأمثل إلى قوة الدول، وسيادة المجتمعات، بل تدرك أنها القيمة الكبيرة التي فقدناها، وخاصمتها عقولنا وجافتها مجتمعاتنا، فصارت أمتنا في مؤخرة الركب، وذيول الأمم، ولن تقوم لنا قائمة إلا بالانصياع لأول نداء في القرآن الكريم، خاطب به نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: (اقرأ)
إن القراءة فينا إذن.. ليست هواية أو متعة أو شغفا، وإنما كانت فينا منهجنا وعقيدة ودين، وطريق نرتاد بسيطته لقوتنا وعزتنا وتميزنا وارتقائنا، وكم يعترينا اليأس والأسى، ونحن نرى الأمم من حولنا تسابقت إلى دوحتها، فعظمت الكتب، وشغفت بالقراءة، وهامت بالمعرفة، حتى تصدروا الدنيا، وصاروا أعلى منا مكانة وقيمة وقيادة لدفة الحياة.
لقد قصرنا كثيرًا وأهملنا كثيرًا وعجزنا كثيرًا، وآن الأوان لانتفاضة وثورة على هذا التبلد المريع، والتأخر المشين، والظلمات التي صرنا نتخبط في أدراجها مشتتين، آن الأوان أن نُمسك بالكتب، ونصاحب القراءة، وندمن المعرفة، ونقيم المكتبات، لتكون دليلنا في حيرة الحياة.
وكم من خاملون تافهون لا قيمة لهم، كانت القراءة هي المارد الجبار الذي جعل منهم عظماء وعباقرة وقادة وأئمة يقودون الدنيا ويضرب بهم المثل في انفرادهم وإنجازهم، وما كان لهم سبيل غيرها جعلهم يتفردون به على أقرانهم، وجعلهم إلى اليوم أحياء يُذكرون حتى لو مر على وفاتهم مئات السنين.. أرأيت كيف كانت هي الحياة؟
ويأتي اليوم هذا الكتاب الذي نطق به إحساسي قبل قلمي، ليضم هذه المعاني، ويقف على تلك القضية، ويذكر بهذا الأمانة، لنستعيد الوفاء لها، والقيام بواجبها، وحمل مسيرتها، وفوق هذا وذاك، فهو سلوة لعشاق القراءة، ومحبي الكتب، يعرفون منه عظيم نفعها، وجليل أثرها، وقيمة صحبتها، وروعة النظر فيها، وتأثيرها الفاعل على الحياة والمستقبل.
وفي النهاية سنعرف أن القراءة هي عنصر القيادة، وإكسير القوة، والمادة السحرية، التي تبني بها إنسانًا متفوقًا مدهشًا قوي العقل والفكر، بصير الرأي والحكمة.. بل نشيد بها مجتمعا عظيما راقيًا شاهقًا، وأمة كريمة متقدمة مهذبة، يغرد بها الكون، وتشدوا بها الركبان.