هذه فصول من البحث لم أقصد بها إلى التاريخ، ولا حاولت أن أمسك لها يراعة المؤرخ الذي يسجل ما يشهد في مسرح الحياة، ويكتب ما يُروى عن الغابرين، وهي ليست من التاريخ ببعيد، بل هي منه في الصميم، ولم أقصد بها إلى ترجمة بعض الشخصيات العظيمة في تاريخ الإسلام، وإن كانت حول هذه الترجمة تدور، وليس من همِّها أن تسجل يوم ولادة زيد، ولا عام وفاة عمرو، وليس من همِّها أن تحدِّثك عن البطولة والأبطال في ساحة الوغى والنضال، وليس من همّها أن تفتح بين يدي القارئ صفحة من قصص الوقائع وسرد الأحاديث.
وإنما قصدت بها إلى ناحية خاصة في سجل التاريخ الإسلامي، هي أضوأ نواحيه وأجدرها بالعناية الدراسة والتأمل الباحث، تلك هي ناحية تأريخ الفكر الإسلامي على ضوء ترجمة أشهر رجاله وقادته من علماء الملة ومفكريها، والوقوف عند آرائهم ونظرياتهم في شتى الفنون ومختلف العلوم وفنون المعارف، وما أفاده الإسلام من تلك النظريات، وما كسبته الإنسانية من ورائها، لنكشف بها عن آيات الجلال الفكري في حياة الإسلام المباركة، وآية التاريخ في الإعتبار بتقلباته، والإفادة من أحداثه، وسر العبرة في التأسي، وطريق التأسي التحليل والتعليل، ورد النتائج إلى مقدماتها، وربط الأسباب بمسبباتها، فذلك أبلغ في تصوير البواعث النفسية لتكوين التاريخ الفكري على ضوء الظواهر الإجتماعية.
والتاريخ الإسلامي أحفل التواريخ بمواطن العبر، والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى بعث ماضيهم وإستثارة دفائن تاريخهم الذي يضم بين جنباته ثروة فكرية لا تفنى، وكنوزاً علمية لا تنفد، لا يقتضيهم بعثها سوى عزيمة صارمة، وصبر على لأواء البحث وجهاد التفكير.