رسالتان فلسفيتان خطهما المعلم الثاني الفارابي أولاهما “مقالة أبي نصر الفارابي فيما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم“. والأخرى “جوابات لمسائل سئل عنها” تتميز الرسالة الأولى منهما في أنها حديث ممتع عن دلالات علمية وفلكية، ينقلها إلينا عالم تتأدب هو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله البغدادي في ديباجة قصيرة يسوقها إلينا بألفاظه المتميزة، واصفاً حرصه الشديد في اقتناء هذا العلم الذي يسعى إليه جل حياته، باحثاً في مقالات أصحاب الأرصاد ومدوناتهم، فلم يجد لديهم ما يكفي تطلعه ورغبته اللتين يقصد ويريد، حيث وصلت به الحال إلى اليأس والارتياب، فليس لدى هؤلاء شفاء عما هو فيه حتى اتفق له لقاء أبي نصر الفارابي فشكا إليه حاله ويأسه ورغبته الشديدة في الوقوف على أسرار هذا العلم، خاصة ما يصح منه وما لا يصح، وما اتضح من أحكام مذاهب الحكماء الأولين عنه.
وبعد تأويل استجاب الفارابي لطلبه، فنقل البغدادي عنه جزازات كان الفيلسوف يعدّها عن هذا العلم في تذاكير مختصرة، فانتسخها جميعها، وعندها اطمأنت نفسه وصدق ظنه، ورجع عن الفارابي بالقول الحق والرأي السديد. تلك هي فذلكة البغدادي التي سبقت نص الرسالة الفارابية. وبالعودة إلى النص الذي نقله البغدادي عن أبي نصر، ندرك بأن الفيلسوف يرى أن فضيلة العلم لا تتحقق إلا بإحدى ثلاث: أما بشرق الموضوع، واما باستقصاء البراهين، وأما بمعظم الجدوى التي في العلم المقصود… وإذا قيس الأمر بالنسبة لعلم النجوم فإنه يتميز بشرق موضوعه بين هذه الثلاثة. ويسعى الفارابي، كمدخل لتذاكيره هذه، إلى الحديث عن اتجاهين، يتعلق الأول منهما بالنظرية السببية في العلم، من حيث أن كل سبب معدّ لأن يعلم ويضبط ويوقف عليه… أما الثاني فيتعلق بفكرة الاتفاق، وهو عكس ما ذكر من حيث لا أسباب للاتفاق ولا علّة، ويعرض الحكيم الموقف بنحو من الإيجاز ليصل في النهاية إلى قضية الممكن وعلاقته الوجودية، وخضوعه إلى القياس، لأنه الأمر الذي يفيد علماً بوجود الشيء أو لا وجوده من غير أن تحيل بالذهن إلى طرفي النقيض.
بل، كما يقول الفارابي “أي فكر أو قول لا يحصّل أحد طرفي النقيض ولا ينفي الآخر، فهو هذر باطل!…” ويخطو الفيلسوف خطوة أخرى فيحدثنا عن دلالة الأسماء المشتركة وما قد تسببه من الانزلاق نحو الخطأ أو المغالطة، من حيث أن الأحكام النجومية مشتركة لما هو ضروري من جهة، ولما هو ممكن على الأكثر من جهة، ولما هو منسوب إلى الظن والوضع أخرى. ويستطرد الفارابي في حديثه هذا يتطرق إلى جوانب متعددة، منها الكلام على صفات النجوم وحركاتها، مستعيناً بالمقارنات والمشابهات في هذا السبيل، لينتهي أخيراً إلى إنكاره لآراء أولئك الذي يدّعون أن لحركات النجوم تأثيراتها على حظوظ الناس ومنازلهم الاجتماعية، ان خيراً مخير، وأن شراً مشر! وفي موقف الفارابي الفيلسوف حدة علمية جادة ومحبة، لا يستغرب صدورها عن حكيم شاء المدرسة المنطقية في عصره، فكان حقاً “المعلم الثاني” في حضارته. أما الثانية في الرسالتين فإنها تتضمن إجابات عن مسائل سئل عنها الفيلسوف وكأن أحداً من تلاميذه صاغ له الأسئلة بعبارات معينة ومحددة، ثم بدأ هو بالإجابة بكلام مباشر منقول عنه. والأسئلة بطبيعتها متنوعة ومختلفة، ولكن أكثرها ينمو نمواً منطقياً، أي أنها تتعامل مع موضوعات المنطق بالذات خاصة المقولات.