جاءني أول دافع لتدوين هذا “الحوار الفردي” أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث وجدت نفسي – بسبب جنسيتي النمساوية – “ضيفًا” على غير إرادتي على الحكومة الهندية، منذ الأول من أيلول/سبتمبر 1939 حتى الرابع عشر من آب/أغسطس 1945. كنت في تلك السنوات المسلم الوحيد في معسكر اعتقال يحوي حوالي ثلاثة آلاف من الألمان والنمساويين والإيطاليين – منهم النازيون والمناهضون للنازية، ومنهم الفاشيون والمناهضون للفاشية – جُمعوا عشوائيًا من كافة أنحاء آسيا، واحتجزوا دون تمييز وراء أسوار من الأسلاك الشائكة بوصفهم “أجانب أعداء”. ولأني كنت المسلم الوحيد وسط هذه العدد الضخم من غير المسلمين، فقد زاد انشغالي بالمشكلات الثقافية والفكرية لمجتمعي وللبيئة الروحية التي اخترتها لنفسي بدايةً من عام 1926.
كانت الحيرة والفوضى الثقافية التي تخبط فيها المسلمون آنذاك حاضرة دائمًا في عقلي، وكاد التفكير في سبب – أو أسباب – ذلك الارتباك يتحول إلى هوس لدي. مازلت أرى نفسي أزرع المسافة الطويلة للثكنة جيئة وذهابًا يوما بعد يوم، محاولا أن أفهم كيف لأمةٍ أنعم عليها الله بالهدى الروحاني السامي، المتمثل في القرآن وفي سيرة خاتم الأنبياء، أن تعجز لقرون عن التوصل إلى مفهوم واضح للشرع- مفهوم متفق عليه ولا لبس فيه يمكن أن يؤتي به هذا الهدي أُكُلَه. وذات يوم، حضرتني فجأة إجابة على هذا السؤال الذي أرقني: لم يطبق المسلمون، ولم يستطيعوا تطبيق، شرع الإسلام على مشكلاتهم الحياتية الاجتماعية والفردية لأنه قد حيل بينهم وبين فهم هذا الشرع، ومن ثم بدا غير عملي، وكان السبب في هذا قرون من التأوُّل والتفرع الفقهي.