منذ أن عرفت الطباعة طريقها إلى مصر لم يحدث أن أخرجت المطبعة كتاباً أثار من الضجة واللفظ والمعارك والصراعات مثلما أثار كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لمؤلفه علي عبد الرازق. على أن المرجع في كل ذلك لم يكن إلى مجرد القضية الفكرية التي دار من حولها البحث، والجرأة التي تناول بها مؤلفه الموضوع، وإنما كان مرد الكثير من النقع الذي أثير والصخب الذي استند إلى مجيء هذا الكتاب سهماً نافذاً، وجّهه المؤلف الشيخ علي عبد الرزاق إلى الرجل الجالس على عرش مصر يومئذ (سنة 1925م) الملك أحمد فؤاد، ومن ثم نشوء مجموعة من الظروف والملابسات السياسية والاجتماعية التي تصاعدت بالآثار التي ترتبت على صدوره إلى الحد الذي جعل منها معركة لم يسبق أن دار مثلها حول كتاب من الكتب في مصر منذ أن عرفت عصرها الحديث.
وفي أغلب الدراسات التي كتبت حول هذا الكتاب، في ظل قيام حكم أسرة محمد علي بمصر، أي فيما قبل يوليو 1952م، لم يستطع الكثيرون التخلص من عيوب النظرة الوحيدة الجانب في الدراسة والتقييم للكتاب، فهم أما معه دون تحفظ، وأما ضده دونما روية أو تعقل أو حساب. حتى بعض الدراسات الجادة التي تناولته بالنقد الموضوعي الذي بلغ حد التفنيد لكثير من آرائه، لم تسلم من شائبة مجيئها في موكب الدفاع عن النظام الملكي في مصر و”الذات المصونة” الجالسة على العرش المصري في ذلك الحين. ومن ثم كانت الحاجة ماسة أشد ما تكون إلى تقديم نص هذا الكتاب إلى القارئ المعاصر، كما يرى فيه نموذجاً لتفكير مفكر مسلم أثار معركة من أشهر المعارك في تاريخ الإسلام الفكري والسياسي الحديث. وأيضاً إلى التقديم لهذا الكتاب بدراسة متأملة.
فكانت هذه الدراسة للدكتور محمد عمارة والتي هي أقرب ما تكون إلى التقييم الموضوعي الجاد لما في الكتاب من إيجابيات، والتحديد الدقيق لمكانة في موكب الفكر المصري والعربي والإسلامي الحديث، ومنزلته ومنزلة صاحبه من حركة الإصلاح والتجديد لفكر الأمة العربية والشعوب الإسلامية، وأيضاً النقد الهادئ والموضوعي لما في كتاب “الإسلام وأصول الحكم” من هنات وأخطاء وسلبيات.