كتاب “الحروف” الذي ينشر قصة على هذه الصفحات لأول مرة هو من أكبر مصنفات أبي نصر الفارابي وأعظمها غناء للمهتمين بدراسة الفكر العربي عامة والفلسفة الإسلامية وفقه اللغة العربية خاصة، كتبه أمام المنطقيين في عصر بلغ فيه الفكر العربي أوجه في تفهم أمور العلم واللغة، وضرورة التعبير الصحيح عن ما ينظر الإنسان فيه ويعقله. فلا يستغني عن قراءته من يشتغل في تاريخ الفلسفة واللغة.
وأهم ما يجده الناظر في الكتاب اليوم هي الشروح الوافية لمعاني المصطلح العلمي الفلسفي في العربية ولغات أخرى غير العربية، والتعريف بما عمله المترجمون عنه نقلهم هذا المصطلح من اليونانية والسريانية، وتفسير المعاني العاميّة وصلتها بالمعاني العلمية، ثم البحث في أصل اللغة واكتمالها وعلاقتها بالفلسفة والملّة. وهذه أمور لم تكن معروفة قبل العثور على أصل كتاب “الحروف” أن الفلاسفة الذين كتبوا بالعربية قد استقصوا البحث فيها.
ومع ذلك فموضوع الكتاب ليس اللغة والمصطلح العلمي فحسب، ولكنه تفسير لكتاب “ما بعد الطبيعة” لأرسطو طاليس، وهو أول كتاب ينشر للفارابي، في علم ما بعد الطبيعة، وما نشر له من قبل في هذا العلم مختصرات موجزة لا يفصل الفارابي فيها القول في الموجود وأعراضه كما يفعل في هذا الكتاب. وهو أقدم شرح واف بالعربية لأغراض كتاب “ما بعد الطبيعة” يعثر على أصله، ولا شك في أنه كان مصدراً استقى منه شرّاح كتاب “ما بعد الطبيعة” الذين أتوا بعد الفارابي، مثل ابن سينا وابن رشد، الكثير من آرائهم، في العلم الإلهي، وقد أضفى المحقق بعمله في هذه النسخة على كتاب الفارابي سهولة ووضوحاً مقدماً هذا الكتاب بمنهجية علمية معاصرة بمقابلة النسخ الأصلية الموجودة، ثم قام بتقسيم الكتاب إلى أبواب وفصول وفقرات، واضعاً عناوين لها من محتويات الكتاب وفي النص، مرتباً الحواشي متسلسلة بحسب الفصول والاعتناء بفهارس الأعلام والكلمات في نهاية الكتاب.