النص المختلف هو ذلك الذي يؤسس لدلالات إشكالية تتفتح على إمكانات مطلقة من التأويل والتفسير. فتحفز الذهن القرائي وتستثيره ليداخل النص ويتحاور معه في مصطرع تأملي يكتشف القارئ فيه أن النص شبكة دلالية متلاحمة من حيث البنية، ومتفتحة من حيث إمكانات الدلالة. وبما أنها كذلك فهي مادة للاختلاف، بمعنى أنها مختلفة عن كل ما هو قبلها، وهي تحتلف عما نظنه قد استقر في الذهن عنها. ومع تجدد كل قراءة نكتشف أن النص يقول شيئاً لم نلاحظه من قبل، فكأننا أمام نص جديد يختلف عن ذلك الذي عهدناه في قراءات سابقة. هذا هو النص المختلف، الذي تشير إليه مقولات الجرجاني، المعروضة في الفصلين الأول والثاني، ومثلها مقولات آخر لغيره عرضنا لها في الفصل الثالث ولمسناها في الثاني.
وفي مقابل هذا نجد مفهوماً آخر يزاحم مفهوم الاختلاف ويسابقه لاحتواء النص في التصور وفي الإنشاء، وهو مفهوم (المشاكلة) الذي ساد لدى عدد كبير من الدارسين. وهو يهدف إلى جعل الإبداع نظاماً انضباطياً يتشاكل النص، بوصفه لغة، مع الأشياء بوصفها واقعاً مقرراً سلفاً. ويكون النص ثانوياً وتابعاً ومحاكياً، ويحكم عليه من هذا المنظور. فالعلم سابق على النص، واللفظ لا بد أن يطابق المعنى. وإنه لمن نعم الله أن هذا المفهوم لم يتغلغل في التجربة الإبداعية بوصفها ابتكاراً وإنشاء، وذلك لأن الإبداع لا يمكن أن يتأسس على المطابقة والمشاكلة، ولو شاكل النص واقعه الخارجي لتحول إلى وثيقة وصفية وصار خطاباً علمياً أو تاريخياً. ولا ريب أن المبدعين يدركون ذلك تلقائياً، ولذا فهم قد ارتفعوا عنه تلقائياً. وليست المعضلة -هنا- لدى المبدعين ولكنها فحسب لدى المفكرين والنقاد. وتأثيرهم لا يبلغ المبدع، وإنما هو تأثير يفسد -وأفسد- النشاط القرائي، وأثر على علاقة القارئ مع النص. وحدث ظلم كبير ضد التجديد والتحديث بسبب ترسب تصورات (المشاكلة وغلبتها على الذهن الثقافي. وجرى رفض أبي تمام من أهل المشاكلة كالآمدي ومن جاء بعده في خط طويل يمتد إلى المرزوقي شارح الحماسة. وكذلك صارت دعوات الرفض ضد الشعر الحديث، وهي تعود إلى غلبة مفهوم المشاكلة على عقول الرافضين.
ولقد التزمت بمصطلحات عربية تدل على ما أهدف إليه من مفهومات. ومصطلح (الاختلاف) يتردد عند عبد القاهر الجرجاني ليدل به على تحولات الدلالة الأدبية من واقعها المعطى، بوصف هذا الواقع عالماً اصطلاحياً متعارفاً عليه، إلى واقع جديد يتولد عن النص. وهذا التوالد هو اختلاف يفضي إلى ائتلاف وينتج عن تزاوج المختلفات داخل النص. وفي الفصل الأول والثاني تفصيل ذلك. ولا ريب أن ترديد المصطلح (الاختلاف) في واقعنا هذا سيجر الذاكرة إلى جاد ديريدا، ومصطلحاته حول الاختلاف والإرجاء.
وفي القسم الثاني من الكتاب وقفت على مفهوم (الشبيه المختلف) كما يتجلى في النص الإبداعي من خلال مداخلة المتنبي للبحتري وبالوقوف على (المقالة البشرية) وما تنطوي عليه من إشكالات قرائية وتأويلية. ذاك بحث في النص عن النص وفي التفسير عن التفسير، وهو قراءة للمضمر النصي والمضمر النظري.