حياة علماء الشيعة الإمامية، وتاريخهم المضيء يشكل جانباً مهماً من التاريخ العام للشيعة عبر القرون الماضية. ولا تكون مبالغة إذا قلنا بأن هذا الجانب يأتي في الدرجة التالية مباشرة لحياة الأئمة المعصومين وتاريخهم في الأهمية والسمو. وذلك لأن هؤلاء العلماء جسدوا أفضل أنواع السلوك الإسلامي، وتحلوا بكل ما يدعو إليه الإسلام من فضائل وأخلاق وتقي وورع ما لم نجده عند غيرهم إلا بدرجات أقل ومراتب أدنى.
لقد كان هؤلاء العلماء رغم كل ما كانوا يلقونه من مضايقة السلطات في عصورهم يمثلون أروع مواقف الصمود والاستقامة على طريق الحق. وكان هؤلاء العلماء رغم كل ما يملكونه من مكانة شعبية ومقام اجتماعي لا يضاهي يتمتعون بأعلى درجات التواضع والبساطة.
وكان هؤلاء العلماء رغم كل ما يملكونه من إمكانيات مالية ضخمة، يجسدون أعظم درجات الزهد والعفة والأمانة. فكم من عالم فذ من هؤلاء قضى الشهور في السجون، وهو يواصل عمله الفقهي، ويتابع انكبابه على العلم فيكتب -حتى في السجون- كتبه الفقهية ودراساته الإسلامية.
وكم من عالم من هؤلاء أمضى الشهور والأعوام في أشد العناء من جهة الرزق، وهو مع ذلك يكتفي بالقوت ولا ينحرف يميناً أو شمالاً، ولا سمه منه سوى الشكر والحمد، ولا ترى منه سوى الاستمرار على طريق الاجتهاد والاشتغال العلمي المجدّ. وكم من فقيه من هؤلاء عانى الأمرين من مجتمعه، وأبناء قومه، ومعارضيه ومناوئيه حسداً أو بغضاً أو عداءً وهو مع ذلك يقابل كل ذلك بالخلق العظيم، واللطف والرحمة، والإشفاق على الأعداء.
إن دراسة حياة وشخصية هؤلاء العلماء الأفذاذ وهؤلاء الفقهاء الأبرار من الشيعة تكشف للقارئ أنهم كانوا في أعلى مستويات الذكاء والفهم والنبوغ وأنهم وظفوا كل هذا الذكاء والفهم والنبوغ في خدمة الإسلام فأغنوه شرحاً وبسطاً، وخلّفوا من المؤلفات والدراسات والأبحاث المطولة والمختصرة ما استطاع أن يحافظ على خلود الإسلام وتوسعه ومرونته وانتشاره وبقائه فكانوا مثلاً صادقاً لقول الله تعالى: “إنما يخشى الله من عباده العلماء” ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء.
إن حياة العلماء الفقهاء الشيعة الإماميين جديرة بأن تخصص لها دراسات وبحوث مطولة تستقصي دقائقها، وتتقصى حقائقها وتكتشف ما يزال خافياً منها على جيلنا الحاضر.
وهذا الكتاب محاولة في هذا السبيل، فهو اختصار لكتاب “روضات الجنات” الذي روى قصصاً وتواريخ متفرقة عن هؤلاء الأبرار