قصة الضمير المصري الحديث .. هي قصة الوعي الوطني. و الإدراك لحركة التاريخ. و البعد بالمستقبل .. و هي أيضا قصة تيارات الثقافة العصرية الوافدة .. و هي أخيرا قصة الرجال الأذكياء الذين ساهموا في صناعة العقل المصري الحديث. أمثال رفاعة الطهطاوي و جمال الدين الأفغاني و عبدالله النديم و محمد عبده و لطفي السيد و طه حسين و غيرهم.
هذه القصة يجلوها لنا بقلمه الرشيق و رؤيته الجديدة الشاعر الكاتب: صلاح عبدالصبور.
انها قصة ممتعة .. و تفاصيلها أكثر إمتاعا.
اختار عبدالصبور لحظة مفصلية ليبدأ بها كتابه و هي اللحظة التي أجمع أغلب المثقفون انها البداية الحقيقية لتشكل الوعى المصرى الحديث أو كما يسميه هنا الضمير المصرى الحديث
و كما يحدث في الحواديت أراد علماء أوروبا أن يكشفوا لعلماء مصر عن تقدمهم و ذكائهم .. فدعوهم إلى زيارة المجمع العلمي ثم أخذوا يعرضون عليهم فنونا من إبداعهم .. صب أحدهم سائلا أبيض ثم ألقى فيه ببعض السائل الأخضر. فصار و يا للعجب أحمر. ثم أخذ هذا السائل فوضعه على النار فصار حجرا. و دق هذا الحجر بمطرقة في يده فسمعت له طرقعة هائلة و دوي عظيم. و ارتجف علماء مصر. فلما استردوا وعيهم لم يملكوا الا أن يهرشوا ذقونهم و يستعيذوا بالله من شر السحر و السحرة.
كان الصراع عبثيا بين جيشين أحدهما يمثل الماضى و الأخر يمثل المستقبل
كان جيش المماليك أنيقا رشيقا. يلبس أحدهم قميصا من القطن الناعم الأبيض فوقه ثوب من القماش الهندي الخفيف. و فوقه قفطان من حرير مزركش تمتد أكمامه حتى أطراف الأصابع. ثم كرك بأكمام قصيرة و حول رقبته فراء من السمور. و فوق ذلك كله طيلسان يلف به جسمه جميعا. و في يده سيفه و في وسطه خنجره. و رووا أن مقبض الخنجر الذي يحمله أحدهم كان يقدر بمائتي ألف جنيه.
هذا الجيش من الفرسان .. كان يواجه جيشا آخر من المدفعية. ملابسه متواضعة. و حركته خفيفة. و زاده قليل. حتى أن شيخنا الجبرتي يحدثنا بلهجة مليئة بالعجب عن أن نابليون حين أراد الخروج إلى بلبيس للاستكشاف لم يصطحب معه طباخا .. بل لف دجاجتين في كيس و انطلق مع ياوره.
و حين التقى الجيشان قال قائل المماليك: ما لهؤلاء الفرنجة المخنثين و القتال؟ سنمزقهم بسيوفنا. و قال قائل الفرنسيس: ما لهذا الجيش يخرج إلى القتال و كأنه يدعى إلى وليمة؟ سنمزقهم بمدافعنا. و هزمت المدافع السيوف.
حدد ثلاثة مراحل في حياة النخبة لتشكيل الوعى و الضمير الجمعى للمجتمع المصرى عن طريق هذه النخبة
و هناك ثلاث مراحل في حياة النخبة. أولاها النظر في الواقع الذي نشأت فيه. و استبانة عيوبه و نقائصه. و ثانيتها الإعتزال للتأمل في هذه العيوب و النواقص. و اكتشاف سبل تجاوزها. و ثالثتها العودة إلى المجتمع بهذا الإحساس الثقيل السعيد بالحمل الملقي على عواتقهم. إذ يطمحون إلى تغيير المجتمع باستعمال العقل و الحوار حينا كما يفعل الفلاسفة و الأنبياء أو باستعمال القوة و تجميع خيوط السلطان حينا كما يفعل الثوار و المشرعون.
يبدأ بقصة رفاعة الطهطاوى أول علامات النهضة و تشكل الوعى
و أبحر رفاعة مع البعثة على باريس. و ركب السفينة الحربية لاترويت من الأسكندرية. و من ذلك الحين أصابته الدهشة. لقد أصابته دهشة متواصلة لمدة ست سنوات. هي سنوات رحلته و إقامته في فرنسا. و سجل يوميات دهشته في كتابه العظيم: تخليص الإبريز في تلخيص باريز.
مؤكدا بكل الطرق على الجذور العميقة لهذا الوعى و هذا الضمير. تلك الجذور الضاربة في التاريخ لا يجبها أي حدث عارض أيا كان حجمه
و نحن الأن نحس جميعا بالتوق العظيم إلى الحديث عن مصر. و السياحة في أيامها الحالية. و لعلي أذكر الأن زيارتي لأحد بلدان أوروبا بعد النكسة بشهور. و هذا الشاعر الذي التقيت به في أحد المؤتمرات هناك. حين بادرني بالسؤال:
إذن أنت مصري .. كيف حال مصر؟
فأجبته:
حالها متى يا سيدي؟ حالها الأن أم منذ سبعة آلاف سنة؟ إن هذه اللحظة المريرة هي مجرد دقيقة من تاريخها الأزلي. دقيقة من الألم العميق. تستأنف بعدها ابتسامتها الخالدة.
نعم .. لا شك أنكم تغلبتم على الكثير من الصعوبات و لكن ماذا ستفعلون الأن؟
أتعرف قصة العنقاء؟ هذا الطائر الخرافي الذي يحترق بالنار كل حقبة من الزمان. ثم لا يلبث أن يعود من جديد بريشه الزاهي و عنقه الأصيد المائل.
ما أشد تفاؤلكم.
لأننا رأينا كثيرا و عرفنا كثيرا. حين تموت و تحيا مئة مرة في التاريخ تعرف أن الموت عارض و أن الحياة هي الحق. أنت لا تدرك هذا لأنك لا تستطيع أن تنظر في تاريخ بلدك أعمق من مائتي سنة. و بعدها قد ترى القراصنة العراة. أما أنا فلدي فرصة باهرة. إنني أستطيع أن أتجول في تاريخي إلى عشرين ألفا من جدودي فأجد أحدهم يهندس الهرم الأكبر و أحدهم يفتح الجمجمة فيداعب جراحها بأصابعه الحساسة ثم يعيد تسوية الشعر في تواضع حبيب. و ثالثهم ينشد أغانيه الرقيقة و تأملاته العذبة.
إلا أنه يتوقف كثيرا عند حالات الخذلان التي يتحول فيها البطل المهزوم إلى العوبه في يد عدوه و يورد حديث عربى حال عودته من منفاه بعد فشل ثورته
قال عرابي في حديث له بالمقطم عدد 3 أكتوبر 1901: سألت الذين قابلوني بالعريش من أفراد أسرتي: أصحيح أن السخرة ألغيت من عندكم؟ قالوا: نعم صحيح. قلت: و الكرباج؟ قالوا: أبطل من زمن طويل. قلت: و كيف تحصل الأموال من الأهالي؟ قالوا: بالحق و العدل. و كل انسان يعرف ما له و ما عليه. و قد شاء الله أن ينعم على وطني و لكن لحكمه له جل جلاله قضى ألا يتم ذلك على يدي. بل على يد الذين نازلناهم في ساحة القتال و كانوا لنا أعداء فصاروا لمصر خير الأصدقاء. و قد قضى الله أن أكون واسطة هذا التغيير. فأنال وطني كما كنت أتوخى و أتمنى له من الخير. بحسن تدبير جناب اللورد كرومر الإداري المصلح الكبير. انتهى كلام عرابي.
لقد هزمت أوروبا مصر. لا في أرضها فحسب. بل في روحها أيضا.
يتعرض لبعض القضايا الشائكة التي دارت أثناء تشكل الوعى و منها استبدال العربية الفصحى بالعامية و هي الدعوة التي استنكرها موضحا الواقع المرير وقتها
و الواقع أن اللغة العربية لم تكن في تلك السنوات البعيدة القريبة .. في أوائل القرن التاسع عشر. في حال تستطيع فيها أن تقاوم هذا التيار الوافد. فقد كانت العربية الشائعة لغة ركيكة فقيرة محصورة في بعض الألفاظ و العبارات. و من البديهي أن اللغة الفقيرة هي سب للفكر الفقير و نتيجة له في الوقت ذاته. فاللغة الفقيرة لا تستطيع أن تتجاوز الآفاق الكسول المتوارثة في آفاق جديدة. إذ يعوزها اللفظ و التعبير. من مدخور اللغة و مكنوزها. لكي يعيد بعثها بالاستعمال. و يزيل عنها صداها حين تدور على الألسنة و الأقلام.
و مدللا بخطاب ركيك اللغة من محمد على باشا لموظفيه منتقدا انحدار لغتهم و عدم وضوحها فجاء هو نفسه بلغة لا تقل انحطاطا
التحقيقات التي يصير استكتابها حسب الإيجاب بقبول الحسابات بيصير ترقيمها بالرقم الهندي و بداعي عدم دقة و رغبة بعض الكتبة و غشومية و عدم اعتنا البعض منهم. فبكل وقت بيصير وقوع السهو و السقامة منهم بتحرير الأقلام.
و قضية أخرى يستحضرها لنا و هي قضية الإصلاح هل يكون ثوريا أم تدريجيا
و حين فشلت الثورة المسلحة ارتفعت نبرة الإصلاح البطيء أو المعارك الجزئية. فوجدناها عند محمد عبده ترويجا للتعليم. و عند قاسم أمين مطالبة بتحرير المرأة و عند لطفي السيد مطالبة بالدستورية. و عند مصطفى كامل و سعد زغلول تنظيما لأول جامعة مصرية.