ما بعد الصحوة: تحولات الخطاب من التفرد إلى التعدد
كان على الصحوة أن ترتكب الأخطاء أولاً، ثم تنتقد ذاتها ثانياً، لكي تتحوّل من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن ثمّ تدخل زمن ما بعد الصحوة. وقد ارتكبت الصحوة أخطاءها عبر المبالغة في توظيف مقولة “سدّ الذرائع”، وهي مقولة تميل إلى أخذ أصعب الخيارات في أي مسألة خلافيّة، مثل حجاب المرأة أو قيادتها للسيارة (أو أشباه لهما كثر، عرضناها في الكتاب)، حيث رأت قيادات الصحوة أن هذه المسألة ليست اجتهاديّة وأن فتحها للخيار الاجتهادي يفتح ثغرات في الإسلام، يتسلّل منها التغريب والعلمنة، وسوف يريون أنّ التشدّد فيها هو الحصانة المعنويّة التي تحمي الأمّة، ولهذا شنّت الحروب على كل من تسامح في هذه الأمور، مع تخويف الناس من أهل الإباحة، وكأنّما هي إباحيّة، وجرى تشويه صور هؤلاء وخلق جو من التوجس منهم، وكان هذا هو أقوى أسلحة الحشود الصحويّة في ممارسة الاحتساب عبر الضغط لتحقيق المعاني الاحتسابيّة بصيغتها التشدّديّة، وكأنّما هي معركة بين الدين والعلمانيّة، وليست بين رأي لتحقيق المعاني الاحتسابيّة بصيغتها التشدّديّة، وكأنّما هي معركة بين الدين والعلمانيّة، وليست بين رأي فقهي ورأي فقهي آخر، مع إغفال مفهوم خيار الأيسر – حسب النهج النبوي. وكان الظنّ أن هذا تحصين ذاتي يحمي المريد من التفريط في دينه وأمانته، لكن هذا هو ما فتح الباب على الصحوة حيث ظلّ المريدون يكتشفون مرّة تلو مرّة أن التوجسات المغروسة فيهم لم تكن صحيحة، وصاروا يلاحظون أنّ الرأي الفقهي يقوم على سعة معرفيّة لا تحدّها رؤية فردانيّة قسريّة، وساعدت مواقع التواصل على كسر الاحتكار في الفتوى وفي الفئة وفي الخطاب، ومن ثمّ دخلت التعدّديّة والتعرّف على المختلف، فتفكّكت الحشود لتقوم الأفكار بديلاً عن القوّة الحشوديّة، وجاء زمن “ما بعد الصحوة” وهو أطروحة هذا الكتاب