ما دام المؤتمر العالمي الأول للباحثين في السيرة النبوية، يستهدف محاولة تقييم جهود الأمة في خدمة السيرة النبوية، واستشراف آفاق هذه الخدمة، فإن الرؤية التي تقدمها هذه الدراسة، تقع في العمق المستقبلي لهذه الجهود كلها، لأنها تطرح مشروعا لدراسة السيرة، بل والسنة والقرآن قبل ذلك، من “منظور سنني قرآني كوني شمولي متكامل”، وهو ما نعتقد بأن الحاجة أصبحت ماسة إليه، بعد كل هذه الخدمات الأولية الكبيرة للسيرة النبوية من ناحية، وبعد كل هذه التحولات المعرفية السننية المذهلة في الخبرة الحضارية المعاصرة من ناحية أخرى، وبعد كل هذه التحديات المعرفية والثقافية والحضارية القوية، التي أصبحت الأجيال الإسلامية المعاصرة تتعرض لها من ناحية ثالثة. والهدف المحوري لهذه الدراسة هو: محاولة وضع إطار فكري ومنهجي لدراسة السيرة النبوية من منظور سنني شمولي متكامل، يرتكز على نظرية أو رؤية سننية كلية متكاملة في فلسفة التاريخ والحضارة، أو في فلسفة الاستخلاف في الأرض بصفة عامة(1). وهذه النظرية أو الرؤية الكلية المتكاملة، مستخلصة من القرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية الشريفة.
فالقرآن وصحيح السنة النبوية يعتبران دليلا سننيا مرجعيا كليا متكاملا، وضعه الله تعالى بين يدي البشر لتفسير وتأطير حركة الاستخلاف البشري في الأرض، وأرفقه بتطبيق عملي حي ممثلا في السيرة النبوية الشريفة(2)، فجاء الدليل المرجعي بذلك متكاملا في أبعاده النظرية والتطبيقية معا، ولا يخفى أن أعظم النظريات أو الرؤى المفسرة لحركة الوجود عامة وحركة الاستخلاف البشري في الأرض خاصة، هي ما تكامل فيها المشروع النظري مع النموذج العملي في أبعاده الفردية والاجتماعية معا(3)، وهذا ما يراه الدارس مجسدا في السيرة النبوية(4)، التي تمنحنا حقلا خصبا للدراسة السننية الطامحة إلى استخلاص الرؤية أو النظرية الكلية لفلسفة التاريخ والحضارة. ولا شك أن هذا المنظور السنني هو الذي ينبغي أن تُدرَس حركة السيرة خاصة، وتفسَّر معطيات القرآن والسنة وحركة التاريخ الحضاري للأمة والإنسانية عامة على ضوئه.