لا يقتصر المواجهة التي يجد المسلمون اليوم أنفسهم فيها، مع الواقع الثقافي والحضاري للعالم المعاصر، على الصور الظاهرة من تخلف وتجزئة وتعبية، في المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، وإنما تتجاوز ذلك إلى أنماط التفكير والفهم والنظر؛ حتى أصبحت مصادر المعرفة الغربية مرجعية معتمدة في سائر العلوم، واخترقت هذه المرجعيات عقل المسلم ووجدانه، وعملت الألفية بما شاع وانتشر من معارف على حجب الأنظار عن خطورة كثير من المقولات العلمانية والافتراضات النظرية الكامنة، المتجاوزة للاعتبارات الخلقية والقيمة الإسلامية.إن الوعي اللازم على تلك المقولات والافتراضات والقيم الكامنة في مصادر المعرفة السائدة أمر ضروري وشرط حاسم للاستقلال الثقافي والتميز الحضاري.
ولن يتوافر مثل هذا الوعي في غياب النظام المعرفي، وغياب الإدراك العميق لطبيعة القضايا الكلية والأسئلة النهائية التي يوفرها ذلك النظام. فالاهتمام بالنظام المعرفي ليس تكليفاً لما لا حاجة إليه، ولا تنظيراً لما لا فائدة فيه، وليس مقصوراً على الدوائر الفلسفية والبحوث المتخصصة؛فجميع الناس ينطلقون في تفكيرهم وفي عمليات الإدراك التي يمارسونها من نظام معرفي، سواءً بوعي منهم على ذلك أم بدون وعي.
ويمثل ذلك في أبسط أشكاله بالمسلمات والمبادئ والافتراضات النظرية الكامنة في أقوال الناس وأفعالهم، تماماً كما تكمن قواعد النحو في اللغة التي ينطقون بها أو يكتبونها. وعليه فإن البحث في النظام المعرفي الإسلامي هو بحث في الهوية الحضارية للأمة المسلمة، وأي إسهام في بناء النظام المعرفي وبلورته هو إسهام في البناء الحضاري للأمة، وبيان للمتطلبات اللازمة لوضع قواعد النهضة والجهود المبذولة من أجلها على أسس معرفية.فهل ينهض علماء الأمة المسلمة ورجال الفكر فيها لتحمل مسؤولياتهم في بناء النظام المعرفي الإسلامي، وتفعليه في إنتاج المعرفة وتوظيفها وتوجيهها، وتمكين الأمة من استعادة هويتها، وتأكيد حضورها، وتبليغ رسالتها، وهو ما تحتاج إليه شعوب العالم وتنتظره بفارغ الصبر