“ما الجنون؟؟ إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة والموت، تستطيع أن تعرف الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، أما الجوهر، فسر مغلق. وصار هنا يعرف الآن أنه نزل ضيفاً بعض الوقت بالخانكه ويذكر، الآن أيضاً، ماضي حياته كما يذكره العقلاء جميعاً، وكما يعرف حاضره، أما تلك الفترة القصيرة، قصيرة كانت والحمد لله، فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلاً حائراً لا يدري من أمرها شيئاً تطمئن إليه النفس. كانت رحلة إلى عالم أثيري عجيب. مليء بالضباب، تتخايل لعينيه منه وجوه لا تتضح معالمها، كلما حاول أن يسلط عليها بصيصاً من نور الذاكرة ولّت هاربة فابتلعتها الظلمة. وتجيء أذنيه منه أحياناً ما يشبه الهمهمة وما إن يرهف السمع ليميّز مواقعها حتى تفر متراجعة صمتاً وحيرة. ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم، حتى الذين عاصروا عهدها العجيب. قد أسدلوا عليها ستاراً كثيفاً من الصمت والتجاهل لحكمة لا تخفى، فاندثرت دون أن يتاح لها مؤرخ أمين يحدث بأعاجيبها. ترى كيف حدثت؟! متى وقعت؟ كيف أدرك الناس أن هذا العقل غدا شيئاً غير العقل؟ وأن صاحبه أمسى فرداً شاذاً يجب عزله بعيداً عن الناس كأنه الحيوان المفترس”.
يقول نجيب محفوظ في إحدى مقابلاته بأن متعته الكبرى تلك الساعات التي كان يجلس فيها على ناصية حي من الأحياء الشعبية. وذاك حقاً ما يحس به القارئ وذلك عند مضيه في قراءة نجيب محفوظ من خلال مجموعته القصصية “همس الجنون”. لم يكن ذاك الكاتب مجرد ناقل لتلك الصور التي حرّكت مشاهد سردياته الحكائية؛ إلا أنه كان متقناً في تصويره للنفس الإنسانية على اختلاف الشخصيات التي حفلت بها قصصه. كان صادقاً إلى حد يجعل القارئ وقد انسلخ عن مكانه منتقلاً والكاتب إلى عالمه المليء بتلك الحكايات التي تمثّل بتحليلاتها وباسترسالاتها جزءاً من الواقع، بل الواقع كله.