يقوم كل مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، على اصطناع “قطيعة معرفية” بين فكر المشرق والمغرب، وعلى التمييز بين “مدرسة مشرقية إشراقية ومدرسة مغربية برهانية”، وعلى التوكيد أن رواد “المشروع الثقافي الأندلسي ـ المغربي” ـ ابن حزم وابن طفيل وابن رشد وابن مضاء القرطبي والشاطبي ـ تحركوا جميعهم في اتجاه واحد هو “اتجاه رد بضاعة المشرق إلى المشرق”، و”الكف عن تقليد المشارقة”، و”تأسيس ثقافة أصيلة مستقلة عن ثقافة أهل المشرق”.
هذا الجزء الثالث من مشروع طرابيشي لـ”نقد نقد العقل العربي” يتصدى لتفكيك تلك “الابستمولوجيا الجغرافية” من منطلق توكيد وحدة بنية العقل العربي الإسلامي، ووحدة النظام المعرفي الذي ينتمي إليه بجناحيه المشرقي والمغربي، ووحدة المركز الذي تفرّعت عنه دوائره المحيطة. فلا التحول من دائرة البيان إلى دائرة العرفان أو دائرة البرهان، يعني انعتاقاً من جاذبية نقطة المركز، ولا التنقل بين الخانات يمكن أن يشكل خروجاً عن رقعة شطرنج العقل العربي الإسلامي الذي يبقى يصدر عن نظام ابتسمي واحد مهما تمايزت عبقريات الأشخاص وعبقريات الأماكن.
هذا الكتاب، إذ يرفض التوظيف الايديولوجي الإقليمي لمفهوم القطيعة الابتسمولوجية، يتوسل حفريات المعرفة الحديثة ليعيد بناء وحدة الفضاء العقلي للتراث العربي الإسلامي، وليقترح قراءة اتصالية ـ لا انقطاعية ـ للإسهامات المميزة للمدرسة الأندلسية، سواء أتمثلت في مقاصدية الشاطبي، أم عرفانية ابن طفيل، أم الانتفاضة النحوية لابن مضاء القرطبي. وهذا، بالإضافة إلى إعادة فتح ملف “الفلسفة المشرقية” لابن سينا واقتراح حل جديد للغزها.