“كهف العزلة“… هذه خصوص من النصوص لأهل الخصوص ممن أراد الخلوص، يا من اعتز بالناس، ليس كل بيضاء شحمة، فعز من الزحمة، إلى غار الرحمة (فأدوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيء لكم من أمركم مرفقا) في العزلة إستدرار أمطار الأفكار، وإستذكار أبكار الأخيار، والإعتبار بآثار الأخيار، وإختيار مآثر الأبرار، وفيها حجب الجاه، والجام اللسان عن السفاه، وحبس الطبع السارق عن الأشباه، وحفظ مكنون النعمة عن الجناة، والبعد عن كيد الجفاة؛ وفيها إقامة مهرجان العبادة وناموسها، وفتح ديوان المعرفة وقاموسها، والتعرف على نعيم الأيام وبؤسها، والسلامة من غوائل الأشرار ونموسها، والحلوة بأقمار الرسالة وشموسها، وفيها السلامة من صروف الزمان، وضياع الوقت مع الأقران، وصرف الساعات في سوق الخسران، والتعررض للتبذل والهوان…
ومن الفوائد: كسر جماح النفس الأمّارة، ودحض الأماني الغرّارة، فإن من لابس الناس… حفظوا عثاره، واستنبطوا أسراره، وعرفوا غوره ومعياره… ومنها: المتعة برحلة ذهنية بحراً وبراً، والإرتفاع عن السفلة جاهاً وقدراً، فكم من أحمق على عاقل تجراً… كم خلوت بالعلم فأتحفني وشجاني، وفي الزوايا خبايا كما قال الأرجاني، لأن من خالط الناس… هان عندهم كما في شعر الجرجاني… إن آنست وحشة. فناد نفسك: يا نفس قرّي ولا تغرّي، وجاهدي ولا تغتري، وجاهدي ولا تغتري، وعلى صراط السلامة مرّ بي، وفي جنات الانهار استقري… فاجعل العقل رئيسك، والعلم أنيسك، والكتاب جليسك، والقلم والدفتر طمسك وجديسك، واتخذ القناعة كيسك… واطفئ نار الذنب بدمعة، ونوّر ليل الوحشة من الذكر بشمعة… فسأل الله خلوة حلوة، مع عزٍّ في عزلة، وإجتهاداً في إنفراد، وسياحة في راحة، وصمتاً مع حفظ وقت… اجعل الذكر قوتاً والعلم ياقوتاً، واغتنم راحة البال في طاعة ذي الجلال، واجتنب خلطة العدام… اشرب من دنان عزلتك كما دوّن دانتي في روما مقالته: (العزلة في الدار مملكة الأفكار)، وفي دفاتر فلوتير: (إن حسن التفكير في البعد عن الكثير)… حج بقلبك إلى ربك، وخير الحج العج والثج، فعجّ بصوت الإعتراف بما حصل من الإقتراف، تجد الألطاف، وثجّ الدموع على الخدود في السجود، وناد: يا ودود… وفي العزلة الإبتعاد عن أسباب قسوة القلب من كثرة الكلام، وفضول النظر، والخلطة، والمزاح، والتهتك في الضحك، ومجاراة السفهاء، ومداهنة الكبراء، ومنافسة الأغنياء، ومحاولة الأغبياء… وفي العزلة تعلو قيمة المرء، كإختفاء الشمس حتى يعرف نفها، وإحتجاب القمر حتى تظهر فائدته، فما رفع الدر في النمور… إلا لأنه اختفى في البحور…
يشعر القارئ وحين يطأ نظراته صفحات الكتاب، كأنه في رحلة في عوالم الكلمة التي تتشكل شعراً ونثراً قافية وسجعاً، تزخر بالمعاني التي حملت من كل وادٍ عصاً… فكانت تشمل الحكمة والأخلاق والورع والدين والعلم والأدب وكانت تطل على جميع ميادين الحياة سياسة وفناً، علماً وفكراً وثقافة…
لذا تعددت محاور هذه المجموعة ومواضيعها فكان عنوانها “الأسطورة“، فهي، وإلى ذلك، إنتقاءات وباقات من أحسن ما كتب، جمعت بين أصالة المعنى، وجمال المعنى بحيث، كانت الفكرة رائدة، واللفظ حسناً جذاباً؛ وهذه “الأسطورة” إنما هي حديث مطلق، وكلام مسجوع، وتنقلات من فن إلى فن، ومن قضية لأخرى، فيحس القارئ بصحبتها وكأنه في زورق إبداع.