كان (الاستشراق) نقلة إدوارد سعيد الحاسمة نحو تحليل العلاقة بين القوة والمعرفة، وأداء الخطاب الاستشراقي العام لوظيفة تعبوية وسياسية وتخييلية خدمت السياسات الاستعمارية وشكلت جزءاً لا يتجزأ من مناخات صعود الامبيريالية. وفي مقالة كتبها لمجلة “تايم” الأمريكية بمناسبة صدور الكتاب قال سعيد: “بالنسبة إلى الغرب، انطوى فهم الإسلام على محاولة تحويل تنوعه إلى جوهر وحداني غير قابل للتطور، وقلب أصالته إلى نسخة منحطة من الثقافة المسيحية، ومسخ شعوبه إلى كاريكاتيرات مثيرة للرعب…”. ومثل أية سلمة ناجحة رائجة، كان الشرق المصنّع ممنوعاً من التبدل. وإذا حدث ودحل جزء من تاريحه في تناقض مع خصائص السلعة كما رسمها المستشرقون، فإن هذا الجزء سيُقمع ويٌبطل ويُلغى.
ولقد مضى الزمن الذي سمح للخطاب الغربي أن يزعم احتكار تمثيل الآخر، وإدراج وإقصاء وتصنيف كل وأي مجتمع وقبيلة وخريطة وجغرافي وفق هذا المعيار الغربي أو ذاك، وفي هذا الملف الحضاري والمدني أو ذاك. لقد مضى الزمن بسبب أن الغرب ذاته يشهد الآن أعنف أطوار أزمة التمثيل، وتلد في كل يوم خطابات مضادة تشهد على – “بقدر ما نعرف” – جدل الهوية والفارق انطلاقاً من نقطة نقدية واعية لذاتها وليست (ربما للمرة الأولى في التاريخ الحديث) نتاج سفاح ثقافي مع الخطاب الغربي بمختلف ضروبه وصنوفه.
أيضاً معنى ذلك الزمن بسبب من كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق)، والمقالات المجموعة في هذا الكتاب تناقش مآلات ذلك الإسهام النقدي والمعرفي الحاسم، بعد مرور عقد ونصف على صدوره، وفي سياق فكري وكوني حافل يرجع أصداء الأنساق الثقافية الغربية التي أتاحت صعود خطاب الاستشراق وتوطيد أركانه كنظام موضوع مباشرة في خدمة الإمبراطورية. ومقارات إدوارد سعيد تتحدث عن نمط المستشرق المحلّف، والمؤرخ المبشّر بالسياسات الكولونيالية (قديمها مثل جديدها)، والمفكّر المتحرر من وطأة التاريخ .. تاريخ الآخر دائماً.