هذا كتاب الأمة الثاني والسبعون: (تكوين الملكة الفقهية) ، للأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير ، في سلسلة (كتاب الأمة) التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في دولة قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والوقاية الثقافية، ومحاولة إخراج الأمة المسلمة من جديد، اهتداء بظروف وشروط الميلاد الأول؛ لأن نهوض أي مجتمع ومعاودة إخراجه منوط إلى حد بعيد بتوفير ظروف وشروط ميلاده الأول، والتدليل على أن سبب التخلف والسقوط الحضاري إنما أصاب عالم المسلمين بسبب الانسلاخ عن القيم الإسلامية وانكماش الفقه في الدين، لا بسبب الاستمساك بها.
والشاهد التاريخي قائم على أن فترات التألق والإنجاز كانت مترافقة مع الالتزام بشريعة هـذا الدين والإيمان بعقيدته التوحيدية والانتماء إلى الأمة المسلمة، وأن الإشكالية الثقافية والحضارية اليوم بالنسـبة لعـالم المسلـمين هـي في محـاولات دراسـة الواقع الإسلامي وما لحق به من إصابات في ضوء أصول وقيم ومسيرة تاريخية حضارية غريبة عنه، أو بتعبير آخر عن هـذا الخلل: قياس واقع مجتمع بأصول وقيم حضارة مجتمع آخر، علما بأن الفعل الاجتماعي لا يتكرر، ذلك أن القطيعة الثقافية والتاريخية مع معرفة الوحي، وعدم القدرة على [ ص: 12 ] تجريد القيم الإسلامية من قيد التاريخ والجغرافيا، أو من قيد الزمان والمكان، وتوليدها في كل زمان ومكان، هـي الإشكالية الحقيقية، وهي سبب المعاناة.
ولعل الفقه الحقيقي هـو في امتلاك القدرة على تحقيق المناط -بالمصطلح الفقهي- أو القدرة على تجريد النص من قيد الزمان والمكان، والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس، ومعالجته لمشكلاتهم، واستشرافه لمستقبلهم، فقد باتت قولة الإمام مالك رحمه الله المبكرة: (لا يصلح آخر هـذه الأمة إلا بما صلح به أولها ) ، بعد رحلة التجربة المرة، تكاد تكون مسلمة حضارية.