في صباي كنت لازلت لم أدخل المدرسة وقد بلغت السبع سنوات ومع ذلك كنت تواقا أن أسبق عمري فكنت دائما ما أخذ كتب أخي الأكبر وكان أكبر مني بخمس سنوات رحمه الله وأطالعها ..كان كتاب التاريخ للصف السادس الابتدائي وقتها مثيرا لي صحيح لم أكن ملما بالقراءة بالدرجة الكافية لكن الصور كانت كافية لتثير شهيتي للمعرفة التاريخية خاصة صور سعد زغلول ومشاهد ثورة عام 1919 فبدأت أسأل وأفهم وأشاهد الأفلام التي تحكي هذه الفترة على التلفاز ودفعني الفضول لما هو أكبر فقررت أن أقوم بالنشاط المدرسي بالكتاب بنفسي والذي تضمن ما نسميه اليوم البحث الميداني وسط المعمرين من الأهل عن ذكرياتهم عن ثورة 1919 ولكن في دائرة إمكانياتي العمرية المتواضعة ..
بالطبع لا يعرف هذه الأحداث سوى الأجداد وكان جدي لأبي رحمة الله عليه لا زال على قيد الحياة وكنا عادة ما نقضي شهر رمضان معه بقريتنا فسألته عن ذكرياته عن ثورة 1919؟! فبدأ يحكي لي قصص ممتعة عن الثورة والتضحية وصور الفداء وكأنه من صناعها أو أحد شهودها القريبين جدا . ومضت السنوات وكبرت ورحل جدي لكن ما قصه علي لازلت أذكره وحينما أتيح لي أن أقرأ عن كثب حقائق هذه الثورة وقد أصبح جل مصادرها متاحا وجدت أن ما حكاه لي جدي كان مبالغا فيه في أحيان كثيرة كما اكتشفت أن سنه وقتها كان ثمانية أعوام وهو عمر صغير لا يسمح بتمييز الكثير من الأحداث و التفاصيل فضلا عن أن الثورة لم تطرق أبواب قريتنا البسيطة!!…لا أتحامل على جدي الفلاح الطيب فالرجل ببساطته أراد ألا يخذلني وأنا طفل صغير وحكى لي ما ربما سمعه ممن هم أكبر منه وعايشوا هذه الثورة في المدن والقرى القريبة.لكن خرجت من قصة جدي بدرس مهم أن التاريخ حمال أوجه الكل يرويه بعلم وبدون والكل يحن إلى الماضي السابق عليه وإن لم يعايشه ويحمله ما لا يحتمل من المثالية المفرطة والأخلاق العالية .
الصور عن الزمن الماضي دائما براقة وجميلة لأنها التقطت في أعلى درجات الاستعداد والجاهزية الابتسامة فيها قد تكون من القلب وقد تكون مصطنعة ويرقد خلفها خفايا وأسرار تتكشف حينما نعود للتاريخ كما هو نتنفسه كما تنفسه صناعه ومعاصروه وقتها سنعرف الحقيقة أو الصورة الأقرب للحقيقة بعيدا عن المثالية فالمثالية غاية لا تدرك وان ترى الماضي على حقيقته كفيلا بأن تصحح أخطائه المتراكمة أمد الدهر والتي نظنها وليدة اللحظة الراهنة..
إن ما اكتبه في هذه الصفحات هو مجرد دردشة أو لحظات من الصراحة النفسية والصدق مع الذات ربما أحتاجها أنا أكثر من أي أحد آخر وليست بهدف تقديم عملا أكاديميا أو بحثيا أو لربط التاريخ بالعلم كما كان دأبي في الأعمال السابقة ولا سعيا لتغيير قناعاتك سيدي القارئ .
وسأعتمد هنا على مذكرات وكتب منها المتداول ومنها غير المتداول ووقع تحت يدي من باعة الكتب القديمة بما يحقق جلاء الصورة التاريخية ومصداقيتها قدر الإمكان وبما يشبع الشغف التاريخي الخلاق.
والله من وراء القصد د.محمد فتحي عبد العال