لا أحد يسأل عن شيء في هذه الرياض، تعودوا، في هذه المدينة، على رتابتها ولا مبالاتها وصمتها الضاج، وأن الجدران لها آذان… صمت عميق يوحد كل شيء.. يقابله ضجيج الشوارع والبيوت، ضجيج فج لا معنى في مدينة لا تعرف هل هي متدينة أن منحلة، مدينة لكن الذي في قلبها ليس على لسانها، مدينة تنام على ركام هائل من الكلام الذي لم يقل حتى الآن، مدينة كاتمة صوت مثل (قدر) مكتومة، الرائحة تغلي منذ زمن في داخلها، الرائحة تريد أن تفوح، والناس ربما تعرف أن رائحة ما سوف تفوح في أجواء المدينة، وتنشر المستور، بعد أن راكموا الكلام وناموا فوقه. هل أحب هذه الرياض أم أكرهها..؟؟
تقول الرواية حكاية المرحلة الانتقالية التي عاشها المجتمع السعودي غداة الطفرة الاقتصادية الناجمة عن البترول، وهي مرحلة لا تزال ترخي بظلالها على هذا المجتمع، وتحدث تغييراً في طبيعة الحياة ونمط العيش، وهو تغيير آخذ في التبلور على مستويات عدة، فعلى المستوى الزماني، ثمة انتقال من الماضي الى الحاضر. وعلى المستوى المكاني، ثمة انتقال من بيوت الطين في الحارات القديمة الى بيوت الخرسانة الجديدة والشقق. وعلى مستوى نمط العيش، ثمة انتقال من حياة الفقر والكفاف الى حياة الاستهلاك.
هذه المرحلة الانتقالية التي يبدو فيها الكائن مؤجلاً تقولها الرواية من خلال حكاية خالد بطل الرواية وأسرته، في الانتقال من بيت طيني قديم الى فيلا حديثة، وما يواكب هذا الانتقال من توزع الأسرة بين المكانين نفسياً، حيث الحنين الى القديم يجتاح الأسرة وتعلق رائحته بأجساد أفرادها، وحيث الضيق بالبيت الجديد الذي يفتقر الى الروح. هذا الانتقال المكاني من القديم الى الجديد يقابله انتقال داخلي باتجاه معاكس من الطمأنينة والسكينة الى الغربة والقلق والملل والفراغ وعدم الاستقرار.
فهذه الحالة النفسية المركبة يعيشها خالد بطل الرواية وتتجسد في تغييره الدائم للعمل، وإحساسه برتابة الأيام وتشابهها، والخلل في علاقته بالأب، والخوف من كل شيء، والاقبال على الحياة السفلية، وعدم تحقيق أحلامه.
والرواية على مستوى الأحداث تبدأ من هذه النقطة، ثم يروح الكاتب يسرد المسار الذي اتخذته الأحداث حتى بلوغها هذه النقطة مستعيداً البدايات التي أدّت الى هذه النهاية، أي ان الرواية تبدأ من حيث تنتهي أحداثها، وتتخذ مساراً دائرياً. وتعتمد تقنية تداخل الحكايات، فثمة حكاية داخل الحكاية في الشكل غير ان الحكايتين تتكاملان فيما بينهما في المضمون، الكاتب/ الراوي يروي حكاية خالد ثم لا يلبث خالد أن يروي حكايته بدوره، والراوي والبطل كلاهما يستخدم صيغة الغائب وإن تقطعت بصيغة المتكلم أحياناً، في إشارة الى أن مادة الرواية تتشكل من أحداث غائبة ماضية أكثر من أحداث حاضرة معيشة على رغم أن الحاضر لم يكن غائباً عن الرواية.
وعليه، تستعيد الرواية ذكريات طفولة خالد في الحارة والمدرسة والأعياد والمناسبات، وهي ذكريات يختلط فيها الأسود بالأبيض، فمن أسودها: تذكره الروائح الكريهة في الحارة، واضطراره الى النهوض باكراً للانضمام الى المصلِّين، وتسكعه في الحارات الباردة، ومداهمة الأمطار الحارة، وكرهه المدرسة، وخوفه من أبيه. وهي ذكريات صنعتها السلطات الأبوية والاجتماعية والدينية، فحفرت عميقاً في نفس الولد. ومن أبيض الذكريات: التخييم مع رفاق الصبا، ولعبه مع أميرة، والخروج مع الرفاق…، على أن هذه الذكريات، بمرّها وحلوها، بأسودها وأبيضها، ارتبطت بالبيت الطيني والحارة القديمة مكانياً، وبأيام الصبا زمنياً، وهي في الرواية موضع حنين البطل وصوته، يهرب اليها من حاضره القلق وأحلامه المكسورة وإحساسه بعدم تحقق كينونته وبطغيان الفساد على كل شيء مما يطبع الزمن الحاضر في الرواية. وهذه الحالة يعبّر عنها وليد صديق خالد في الرواية، المتضايق بدوره مما آلت اليه الأوضاع ومن التحولات الاجتماعية، بالقول: «… فسد كل شيء، فسدت علاقات الناس، وفسدت أماكن العمل وفسدت العلاقات الأسرية، وغرقنا وسط تناقضات دينية وسياسية واقتصادية عارمة، ماتت الحارة الحقيقية، ومات المجتمع الحقيقي، ومات الإنسان الحقيقي…» (ص 42). وإذا كان توصيف وليد لواقع الحال لا يخلو من المبالغة والتعميم والاطلاق، فإنه لا يعدم من تصوير نمط الحياة الجديد الناجم عن الطفرة الاقتصادية حيث يطغى الاستهلاك، ويسود الصمت، ويضعف التواصل الاجتماعي، ويغرق الناس في دوامة الحياة، وتنكسر الأحلام الخاصة، ويتفشى القلق…
ولعل مصائر شخصيات الرواية ومساراتها هي نتاج هذه الحياة الجديدة وتحولاتها، من انتحار منصور، الى موت أحمد في أفغانستان، الى تفكير خالد بالانتحار، الى هامشية زوج عفاف، الى انشغال الناس بالفضائيات والهاتف النقال والأسواق المركزية والمقاهي. وبلغ الأمر بخالد أن رأى الحياة سلسلة من الانطفاءات المتتالية، من موت والده، الى انتحار شقيقه، الى زواج شقيقته، الى طلاق أميرة، الى مرض والدته، الى تحوله الى ذاكرة مثقوبة.