إن التحدث عن الأشياء بلا رسالة، إن التحديق الطويل التائه في الأفق البعيد، في الأفق المطلق حيث لا شيء، هما التفسير الكامل لمعنى الكاتب. إن الكاتب هو والتحديق بلا أفق، بلا رسالة. إنه لمحتوم على المجتمع أن يقيم معارضة من نفسه ضد نفسه. إن الكتّاب هم دائماً أركان هذه المعارضة.. إن في تصميم كينونتهم أن يعارضوا كل الأشياء المتقررة المتجددة، من الحقائق والأفكار والمذاهب. من الرجال والنظم والتقاليد والعقائد. إن في بنية الأشياء، كل الأشياء، أن تحافظ على وجودها، أن تقاوم عوامل التغير، إن المفروض أن يكون عمل الكتّاب قلقلة هذه الأشياء، وحثها على الحركة والتغير، أو على الزوال. إن موضوع الكاتب هو حياة الإنسان وكل ما له علاقة بحياته أو تأثيرها عليها. إنه ينتقدها ليطورها ويهذبها لأنه رسول يدعو إلى عالم أفضل. إننا لا نستطيع أن نفترض الكاتب شيئاً ما غير أن نفترضه رسولاً… ولكن الكاتب في أكثر الظروف لا يحمل رسالة رسول، إنه لا يحمل رسالة ما. إنه مدّاح، أو متلائم، أو مصلٍّ في المعبد الذي يصلي فيه السلطان أو تتجمع فيه أقدم وأقوى الأوثان. إنه إما عابد للسلطان والخليفة، أو عابد للتاريخ والسوق. ماذا يكتب..؟ إنه لا يريد أن يتعب نفسه أو يتعب جمهوره. لقد تحول إلى قارع طبول، إلى منشد، إلى خطيب في معبد تاريخي أو حكومي. لقد وجد جماهير غافلة متفائلة، راضية عن نفسها وعن ضعفها، عن أمسها وعن يومها وعن غيرها…، عن معلميها، عن قبورها… عن كل آلامها. وجدها تعيش كل الغباء، كل الهوان دون أن تبكي أو تعصي أو تلعن. وجدها مصدقة لا تعرف الشك ولا تريده، وجدها فاقدة لكل مزايا النقد، وجدها تملك أحقاداً وأوهاماً صغيرة نبيلة، فلم يحاول أن يرهق نفسه، أو يورطها في أن يخالف هذه الجماهير أو يعلمها أو يصطدم بها. إنه لم يحاول أن يفجع هذه الجماهير. لقد كان في سلوكه هذا كذاباً لا نبيلاً…”.